«طاعون» الديون
ليس غريباً أن تصل حملة الإنقاذ المالية الأوروبية إلى إسبانيا. الغريب أن هذا البلد قرّر المقاومة في طلب النجدة، والكل يعرف أنها مقاومة وهمية وصوتية أكثر منها فعلية وعملية وواقعية، وأن الدور آت.. آت إلى مدريد، مهما علا صوت السياسيين فيها. والحقيقة أن هذا السلوك السياسي، هو جزء أصيل من سلوك السياسيين في الدول الأوروبية التي تحاول التنفس تحت الماء، على أمل أن يقتنع الآخرون بأنها تسبح، لا أنها غارقة! وأنها قادرة على رفع رأسها (فوق الماء) في الوقت المناسب لالتقاط أنفاس طبيعية، لأنها لا تغرق أبداً! وأنها لن تخضع لسيطرة المنقِذين، مهما كانت نيّاتهم طيبة! فهي دول ذات سيادة سياسية، لكنها ترفض أن تطرح السؤال الأهم وهو: هل هي دول ذات سيادة اقتصادية؟!
''طاعون'' الديون الذي أصاب أوروبا، كما الطاعون الذي ضرب هذه القارة في القرون الوسطى، لم تقف أمامه سيادة ولا حدود ولا ''عنتريات'' صوتية لا قيمة لها. فهو ينتقل من دولة إلى أخرى بسهولة، خصوصاً عندما لا توجد مقاومة حقيقية ضده، بل على العكس تماماً، يجد ''طاعون'' الديون البيئة المثلى الحاضنة له تلو الأخرى. بل الأسوأ أنه ينتشر في أكثر من مكان في وقت واحد، أي أن عدواه ليست متسلسلة. فقد ضرب أربع دول و''نصفاً'' - إن جاز التعبير - في أول هجوم له، هي على التوالي اليونان، البرتغال، إيرلندا، وإسبانيا، أما النصف فكان إيطاليا، ولوّث في طريقه حتى الدول المسعِفة، التي تحاول بكل ما تملك من قوة أن تُبقيه محصوراً في نطاق التلويث لا الانتشار. فالمنقذون في الكوارث، يتعرّضون أيضاً لشيء من خرابها. وفي حالة الديون الأوروبية، يتعرّضون لآثامها. والمنقذ غير المتمرّس، ليس محصناً من أن يسحبه الغريق معه إلى القاع. لنلق نظرة سريعة على الاهتزاز الاقتصادي الذي يصيب حالياً المنقذ الأول (ألمانيا)، والاضطراب الاقتصادي الواضح الذي يصيب حالياً أيضاً المنقذ الثاني (فرنسا). فالاهتزاز والاضطراب ما كانا ليُصيبا هذين البلدين، لولا ''طاعون'' الديون الأوروبية.
إسبانيا دخلت على خط الإنقاذ بـ 100 مليار يورو، وهي حتى بعد هذا الدخول المهين، لا تزال تحب أن تطلق على عملية الإنقاذ توصيف ''الإقراض''. ويبدو أن عقدة ''التسميات'' ليس من السهل حلها أو تجاوزها. وسواء قالت إنها اقترضت لإعادة رسلمة مصارفها المتهاوية، أم قبلت بالتوصيف الإنقاذي، فهذه الأموال الهائلة، ليست سوى ديون على الحكومة، ستدخل فوراً في موازنتها العامة، وبالتالي سينال دافع الضرائب الإسباني نصيبه من مصائبها ومن أعبائها ومن منغصاتها الاجتماعية. وطبقاً للمعطيات الاقتصادية في إسبانيا، فإن هذه الأموال قد تكون بمنزلة دفعة أولى، في سياق دفعات أخرى مشابهة، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى أن التقديرات كانت خاطئة عندما قللت من حجم الأزمة المالية في هذا البلد. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن حجم الاقتصاد الاسباني يوازي ضعف حجم اقتصادات الدول الأوروبية التي حصلت على حزم إنقاذ مالية في الأشهر الماضية. وعلينا ألا ننسى أيضاً التخفيضات الائتمانية المتتالية للاقتصاد الإسباني، بما في ذلك تخفيض ملاءة 16 مصرفاً في البلاد دفعة واحدة، والتخفيضات في هذا المجال جارية، ولا يبدو أنها ستتوقف في المستقبل المنظور.
بالأمس كانت اليونان وبعدها إيرلندا والبرتغال، واليوم جاء دور إسبانيا. وكل المؤشرات تدل على أن إيطاليا التي لا تزال تقاوم كي لا تسجل اسمها في قائمة الدول الساعية لأموال الإنقاذ، لن تكون بمعزل عنها، خصوصاً أن المصارف الإيطالية تعتمد بصورة كبيرة على تمويل البنك المركزي الأوروبي.
مرة أخرى.. إن ''طاعون'' الديون لم ينل فقط من الدول المصابة به، بل أيضاً من تلك التي تسعى للقضاء عليه.